1
الساعة تقارب الواحدة ظهراً. يزدحم المكان من حولنا برائحة احتراق الحواف للخبز المحمّص، والماء المغلي يدور في الكوبين ويذيب حبات القهوة فتشهق وتبقبق وتموت على السطح. يضحك. بقايا جبنة صفراء يتخلى لي عنها ويكتفي بدهن خبزته بمربى التوت التي انفصل ماؤها. نأكل بنهم وبسرعة وبسرحان. يتسرب وشيش الشارع من شق النافذة بتموّج إلى أذنيّ. الزجاج ينفتح على ضوءِ مطفأ لسماءٍ خريفية. جامدان مثل صنمين. ساقاي تمتدان إلى الكرسي الذي بجانبي وهو على المائدة أمامي يعيدُ تشغيلَ حاسوبه المحمول بينما يحرّك الملعقة.
لم نغتسل منذ البارحة، منذ العاشرة ليلاً أظن. تيبّس غشاء أبيض رقيق على أصابعنا وخدينا وعلى مناطق في شَعر رأسينا. تمويه عنكبوت حسب! كنت قفزتُ من الفراش إلى المائدة ملتفّة باللحاف، وهو لإشعال سيجارة قبل أن يهيئ لنا شيئاً من فطور ويأتي به مرة واحدة في صينية من الخشب. جائعان، متعبان، مشعثّان. فمي لا ينفتح لغير اللقمة وفمه أيضاً. أراهن على نظرته صوب النافذة؛ أسكِتُ كلَّ جرس انذار، ألعن قوانين العمل، الإيجار والساعات الإضافية والخفارات، الأنظمة الساقطة والحالية وتعاقب الشمس والقمر وأخطار التدخين.
صامتان. يفرغ الكوبان. أنهض. تهتز الطاولة، نظرته إلى أين، وجهتي المطبخ لأغلي المزيد من الماء. ترافقني شراهة نهار وأنا عارية ورأسي يسير على الأرض بخفّة.
الماء ينزل من الحنفية بعطسةٍ قوية ويرشّني مرة واحدة فأصرخ. ثم يعود لينتظم في تدفّقه ونبضي. أستيقظ من نومي كزائرة عابرة أو إني استعدت ذاكرة.
2
الصرخة في لوحة مونك.
الصرخة البعيدة من بيت الجيران لموت الأب.
الصرخة المختلفة تصعد من الفراش العالي فوقي إلى سقف الغرفة
وتسقط عليّ وأنا طفلة أنام على حشيةٍ تحت على الأرض، استثناء
بسبب الحمى، جانب سرير أمي وأبي.
الصرخة من امرأةٍ تدفع برأس وليدها قبلي في الردهة المجاورة.
الصرخة برؤية الكتاب الذي وصل أخيرا عبر البريد من هناك، يصاحبه
غثيان مرٌّ من الكتابة وما صدَرَ للكاتبة حديثاً.
الصرخة على شاشة التلفزيون من فمّ امرأة جالسة على الأرض، قريباً
من مكان الانفجار وسط بغداد.
كلانا جامد. صرخات مكتومة. أفواه مفتوحة. زوايا الفم تتشقق
واللسان يلعق دماً دافئاً، يسيل على زجاج الكاميرا؛ ليست سوى
عينيّ. لا صوت.
3
كابوس. نتناوب لنهزَّ بعضنا. الهواء قليل. نوسع من فتحة النافذة. أقول كثيراً والصوت لا يطلع. ملفات حبيسة الحاسوب. نحسبها جيداً. هل حسبناها حقاً؟ ما المعنى؟ ولكن، تهزني، أنا غير مقتنعة! أشيح بوجهي بعيداً عن الكتابة والحروف والوقت كثيف فقط عندما نمارس الحب. والحب يكون بديهياً فقط حينها! أو يفسح للرغبة الطريق لتتحرر مني وتروح بذاتها تغتنم الفرصة مهووسة لتؤكد لي إني على خطأ. إني كنت دوماً على خطأ. الوقت المتاح قليل فتقودنا بأقصى سرعة لها. الوقت المتاح لا يجعله يرتخي بهذه السرعة وأدرك أني أفلتَ العقال وسأرتبك وسيرتبك ونتلكأ. حدود هذا الزمن تبهرني. هوة ساحقة هذه البرهة التي أكاد أتراجع فيها وهو يحاول فيها أن يعين الرغبةَ لتتمكن مني ويحاول أن يعلو هو وصوته ليسكِتَ صوتاً موسوساً انتقل مني إليه. هذا الزمن الذي أحاذر فيه لئلا يطلع صوت مني أو تنزلق فكرة. أُقسم أحاذر لأعينهما بيأسي في انجاح المحاولة مجدداً ودموعي تطفر- ليست سوى أداة مساعدةٍ أخرى، غير يديّ وهما تتشبثّان برقبته، تَقْبلان إذاً أن تنتشلاني من غرقٍ محدق! ولكن.
4
أدخل بعد منتصف الليل بحذر الى غرفة ابنتي وهي الزائرة النائمة. أطمئن لغرفتها دافئة في تلك الليلة الخريفية الباردة. غرفتها كما هي عدا المدفأة، مطفأة مذ غادرتْنا. جبينها متعرّق عندما اقتربتُ وانحنيتُ لأقبّلها. تفزّ مرعوبة وتتشبّث بيدي، تمسك بي وتظلّ تصرخ بأعلى صوتها بهلع. أجلس على طرف السرير وأحضنها بقوة. اشش بهدهدة تتباطأ حتى تغفو ثانية بين يديّ. أبقى لساعتين من دون حراك. كيف تنصتّتْ لهواجسي، كيف سمعتني وأنا لست سوى قلق يتجسد في فكرةٍ تشبه عيباً وراثياً، من دون صوت. لا رغبة عندي للعيش وللمواصلة وكنتُ قد تسللتُ لأودعّها! لِمَ لا تُفلتني.